استخدام المال السياسي في الانتخابات التشريعية والرئاسية هي جريمة استفحلت في جميع الدول ولكن بمستويات مختلفة. وتتباين خطورة هذه الجريمة بين دول العالم بمدى التزام كل منها بتطبيق قانون انتخابي ذي معايير دولية يراعي في كل فصوله ضرورة غلق الأبواب أمام أية محاولات لشراء أصوات الناخبين خصوصا من طرف الأحزاب الكبرى.
ففي تونس مثلا سجّل المراقبون خلال انتخابات المجلس التأسيسي التي جرت يوم 23 أكتوبر من سنة 2011 آلاف التجاوزات التي تصب أغلبها في استغلال أصوات الناخبين من ذوي الدخل المحدود بمقابل مادي أو من خلال عدم الالتزام بضوابط الحملات الانتخابية والإشهار السياسي. ورغم توفر الأدلة الموثقة لدى المراقبين إلا أن خلو القانون الانتخابي من بنود حاسمة بخصوص العقوبات الرادعة لهذه الجرائم جعلها تمر دون عقوبات تذكر. غير أن هذه التجربة التي كانت الأولى من نوعها في تونس وفّرت أرضية مناسبة لأعضاء المجلس التأسيسي، الذين يناقشون في هذه الفترة القانون الانتخابي الجديد، للحرص على التوقي من هذه الظاهرة ضمانا للشفافية ولتكافؤ الفرص بين جميع الأحزاب والقائمات المستقلة. وقد طرحت مشاريع قانون الانتخابات المقدمة للمجلس التأسيسي هذا الإشكال بشدة مما انجر عنه انقسام في المواقف بين مختلف الاحزاب وصلت إلى حد العجز عن إيجاد مخرج في بعض الأحيان ما من شأنه أن يخلق أزمة بخصوص بعض النقاط التي قد لا تُحل إلا بتوافق سياسي.
توافق ” على مضض ” حول النظام الانتخابي
يعتبر النظام الانتخابي الذي سيتم اعتماده في القانون الانتخابي من أهم النقاط التي حصلت على توافق بين أغلبية مكونات المجلس التأسيسي. ومشروعي القانون الانتخابي المعروضان على النقاش داخل المجلس التأسيسي باقتراح من منظمة ” شباب بلا حدود ” ومرصد شاهد” مع الاستئناس بمقترح مشروع ” منظمة عتيد”، يدعمان نظام الاقتراع على القوائم مع التمثيل النسبي واعتماد أكبر البقايا. ونذكر هنا أن هذا النظام قد تم اعتماده في الانتخابات التشريعية الفارطة و لاقى اعتراضا من بعض الأحزاب خاصة من حركة النهضة و العريضة الشعبية. إلا أن هذه الأحزاب لم تبد الآن أي اعتراض على هذا النظام، بل عملت على دعمه.
وتتمثل طريقة الاقتراع على القائمات في تقديم قوائم انتخابية من قبل الأحزاب والمستقلين تحتوي كل قائمة منها على عدد محدد من المترشحين في إطار دوائر انتخابية تختلف أعدادها حسب مساحة الولاية (في انتخابات المجلس التأسيسي مثلت كل ولاية دائرة انتخابية، باستثناء الولايات الكبرى كتونس وصفاقس التي قسمت إلى دائرتين). ويقع توزيع المقاعد بين المترشحين بناء على الأصوات التي سيتحصلون عليها باعتماد التمثيل النسبي.
ويعتبر نظام التمثيل النسبي، حسب إجماع أغلب الباحثين في العلوم السياسية، من أكثر الانظمة قدرة على تمثيل مختلف مكونات المجتمع. ويقوم هذا النظام أساسا على تقديم كل حزب سياسي لقائمة من مرشحيه في كل الدوائر الانتخابية متعددة التمثيل. ويقوم الناخبون بالاقتراع لصالح الأحزاب أو القائمات. ويفوز كل حزب سياسي بحصة من مقاعد الدائرة الانتخابية تتناسب مع حصته من أصوات الناخبين. ويفوز بالانتخاب المرشحون على قوائم الأحزاب حسب ترتيبهم على القائمة. وأغلب أنظمة التمثيل النسبي تعتمد نظام الدائرة الواحدة وانتخاب القائمة لا الأشخاص كما يضمن هذا النظام التعددية داخل مجلس الشعب ويقلص من هيمنة الأحزاب الكبرى.
كما اختار نواب المجلس التأسيسي احتساب أصوات الناخبين باعتماد أكبر البقايا الذي تم العمل به في انتخابات المجلس التأسيسي. ويقوم هذا النظام على توزيع المقاعد في مرحلة أولى على أساس الحاصل الانتخابي. ويكون تحديد هذا الحاصل بقسمة عدد الأصوات على عدد المقاعد المخصصة للدائرة وتسند إلى كل قائمة عدد مقاعد بقدر عدد المرات التي حصلت فيها على الحاصل الانتخابي. وتسند المقاعد إلى القائمات باعتماد الترتيب الوارد بكل منها عند تقديم الترشحات. وإذا بقيت مقاعد لم توزع على أساس الحاصل الانتخابي فيتم توزيعها في مرحلة ثانية على أساس اكبر البقايا على مستوى الدائرة. وإذا تساوت بقايا قائمتين أو أكثر يتم تغليب المترشح الأصغر سنا.
ومن إيجابيات نظام الإقتراع على القوائم حسب التمثيل النسبي باعتماد أكبر البقايا عدم السماح لحزب الأغلبية بالاستحواذ على مجلس الشعب وبالتالي فإن الانتخابات لن تخضع نسبيا لموازين القوى السياسية ولن يخدم هذا النظام الاحزاب السياسية الكبرى. وقبول حركة النهضة بهذا النظام رغم إعلانها سابقا رفضها القاطع له، يعود أساسا إلى تخوفها من بروز جبهات سياسية كبرى يمكن أن تحصد نسبة هامة من الأصوات كالتحالف الذي يمكن أن يجمع نداء تونس بالأحزاب الدستورية أو توسيع التحالف بين الأحزاب اليسارية داخل الجبهة الشعبية، فتتحول بالتالي الانتخابات التشريعية إلى صراع بين القوى يحتمل الربح الساحق أو الخسارة الفادحة، وهي مغامرة خيرت الاحزاب الكبرى عدم خوضها.
تزكية القائمات باب مفتوح للمال السياسي
“تزكية القائمات” كانت من أكبر النقاط الخلافية في نقاشات قانون الإنتخابات وعرفت رفضا من أغلب أعضاء لجنة التشريع العام. ويعرف مشروع القانون الذي تقدمت به منظمة شباب بلا حدود التزكية على القائمات كالأتي :
“يتعين على كل قائمة مترشحة في الانتخابات التشريعية وكل مترشح في الانتخابات الرئاسية إثبات جديتهم في الانتخابات من خلال تزكيتهم من قبل عدد أدنى من الناخبين المرسمين بالدائرة المزمع الترشح بها. وقد تم اعتماد سلم تدريجي بالنسبة لتزكية القائمات تبعا لكل دائرة”.
وبشكل مبسّط تتمثل التزكية في ضرورة حصول كل مترشح للانتخابات على عدد محدد من إمضاءات ناخبين من نفس الدائرة يقرّون بتزكيتهم له حتى تسمح له الهيئة بالترشح. واعتبر النائب المستقل هشام حسني أن مبدأ التزكية بخصوص الانتخابات التشريعية هو مبدأ غير دستوري نظرا لأنه يضرّ بسرية العملية الانتخابية، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه لأصحاب المال السياسي لشراء أصوات الناخبين بعد التمكن من معرفة اختيارات الناخبين وتوجيه البسطاء منهم باعتماد الرشاوي. وقال حسني أن تضمين التزكية في مشاريع قانون الانتخابات المقدمة من طرف جمعيات لها خلفيات سياسية يهدف أساسا إلى فتح المجال أمام المال السياسي عبر إقصاء الأحزاب والقائمات الصغرى وإجبارها على الدخول في تحالفات قسرية معها موضحا أن بعض المشاركين في صياغة هذه المشاريع، مثل بعض أعضاء منظمة شباب بلا حدود، معروفون بانتمائهم لحزب نداء تونس. كما ذكر محدثنا أن مبدأ التزكية يخلق عدة مشاكل من بينها عدم توفر المعدات الضرورية لضمان عدم تزكية شخص واحد لأكثر من مرشح كما أنه يساهم في إقصاء القائمات الصغرى ويحرم الشبان من التمتع بفرصة المشاركة في الانتخابات التشريعية. هذا وقد دعمت مشاريع القوانين المقترحة من مرصد شاهد ومنظمة عتيد مبدأ تزكية القائمات.
التمويل اللاحق لإقصاء الأحزاب الصغرى
تمويل الحملات الانتخابية في مشاريع القوانين التي تقدمت بها المنظمات المذكورة جاءت مختلفة عما تم اعتماده في انتخابات المجلس التأسيسي. ففي حين تم خلال الانتخابات الفارطة تمويل القائمات خلال الحملات الانتخابية على دفعات، ينص مشروع قانون منظمة شباب بلا حدود مثلا في فصله 116 على أنه ” يتم تمويل الحملة الانتخابية بالموارد الذاتية للقائمة المترشحة أو المترشح على أن يتم استرجاع المصاريف المنجزة من قبل كل مترشح أو قائمة تتحصل على أكثر من 3 بالمائة من الأصوات المصرح بها بعد تثبت دائرة المحاسبات في مشروعية النفقات.”
يضرب هذا الفصل، حسب عدد من نواب المجلس التأسيسي، بمبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين، إذ أنه يقصي الأحزاب والقائمات الصغرى التي لا تملك تمويلا ذاتيا، ويرجّح كفّة الأحزاب الكبرى ذات التمويلات الضخمة، بل يخلي الساحة أمامها للاستحواذ على جلّ المقاعد النيابية. و حول موضوع عدم اعتماد ما جاء في المرسوم 35 المنظم لقانون الانتخابات السابق بخصوص تمويل الحملات الانتخابية صرح النائب عن الكتلة الديمقراطية فؤاد ثامر أن عامل الوقت والضغط المسلط على المجلس التأسيسي فيما يتعلق بضرورة الإسراع بإنجاز القانون الانتخابي حال دون تقديم النواب لمشروع قانون يعتمد على هذا المرسوم كما حال دون انطلاق النواب من ورقة بيضاء وكانوا شبه مجبرين على الاعتماد على مشاريع قوانين تقدمت بها منظمات وجمعيات مختلفة.
هنات وثغرات وغياب للتوافق
من بين الهنات التي شابت مشاريع القوانين المقدمة غياب فصل يحدد العقوبات المنجرة عن تقديم قائمات بهدف الحصول على تمويل. ورغم تقديم عدد من النواب لمقترح في هذا الصدد إلا أنه لم يلقى توافقا من طرف الأغلبية رغم انه لم يتم الحسم بصفة نهائية في أي فصل في القانون الانتخابي. كما أن مبدأ التناوب الذي يقضي بضرورة التناصف في ترأس القائمات بين الذكور والإناث يمس بمبدأ المساواة على أساس تكافؤ الفرص ويجبر بعض الأحزاب إلى تقديم مترشحين او مترشحات على أساس الجنس فقط.
كما أن اعتماد مبدأ التزكية بخصوص الترشح للانتخابات الرئاسية وتحديد رقم لم يتم تحديده في الدستور ( ضرورة تزكية المترشح لرئاسة الجمهورية ب 30 ألف صوت) رغم أن الفصل 75 من الدستور الذي ينص على ضرورة التزكية يدخل حيز التنفيذ في الانتخابات التي تلي الانتخابات القادمة يعتبر تعسفا على المترشحين لهذه الانتخابات وتعجيزا للمواطنين العاديين مما يؤدي إلى حرمانهم من الترشح لرئاسة الجمهورية ومنح هذه الفرص فقط لأصحاب الاحزاب الكبرى.
وقد عبر عدد من النواب عن خشيتهم من عدم التمكن من التوافق حول القانون الانتخابي في أجل معقول. فالتأخر في المصادقة على هذا القانون سينجر عنه تأخر في إعداد ميزانية الهيئة المستقلة للانتخابات وما يليها من إعداد للمقرات الفرعية والمعدات اللوجستية وإعادة إدماج للأعوان وغيرها من الإجراءات الضرورية. هذا في الوقت الذي ينص فيه الفصل 148 من الدستور على ضرورة إجراء الانتخابات القادمة في اجل لا يتجاوز موفى سنة 2014 مما يجعل من تجاوز هذا الاجل أول خرق للدستور الجديد.
من النقاط التي شكلت أيضا موضوع خلاف هو تزامن الانتخابات التشريعية مع الانتخابات الرئيسية والتي لا تدخل ضمن ما يتم التنصيص عليه في القانون الانتخابي ولم يتم إدراجها في الدستور بل تعتمد على توافق سياسي بين الأحزاب. ففي حين يرى نواب أغلبهم من الأحزاب المكونة للترويكا ضرورة إجراء انتخابات تشريعية أولا مع بقاء الرئيس الحالي في منصبه إلى حين انتخاب رئيس جديد، يصر نواب من المعارضة على ضرورة أن تتم الانتخابات التشريعية أولا نظرا لأن الدستور ينص على ان رئيس الجمهورية يدعو لانعقاد أول جلسة لمجلس الشعب و لتكوين الحكومة.
هذه النقاشات دارت أغلبها دون الاستماع إلى رأي الهيئة المستقلة للانتخابات التي تنتظر الانتهاء من مناقشة مشروع القانون للشروع في أعمالها من خلال توفير الميزانية اللازمة والمعدات اللوجستية. وكان رئيس هيئة الانتخابات شفيق صرصار قد تباحث مؤخرا في لقاء جمعه برئيس الحكومة المهدي جمعة سبل إنجاح العملية الانتخابية. وتلقى السيد شفيق صرصار من رئيس الحكومة وعودا بالإسراع في توفير الدعم اللازم لضمان عمل الهيئة في أحسن الظروف وتسهيل مهامها معلنا أنّه سيتمّ تكليف مخاطب وحيد من طرف رئاسة الحكومة للتفاعل مع الهيئة بما يتيح تنظيم انتخابات ديمقراطية وشفافة. هذه التطمينات دفعت شفيق صرصار إلى التأكيد بأن الانتخابات ستتم في الاجال التي حددها الدستور رغم أن عديد الخبراء والسياسيين أكدوا أن النجاح في تنظيم الانتخابات قبل موفى 2014 أمر شبه مستحيل بالنظر إلى كل الصعوبات القانونية واللوجستية المطروحة.
[يعاد نشره ضمن إتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"نواة"]